سورة النمل - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النمل)


        


{قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ(40)}
الطرف: الجِفْن الأعلى للعين.
تكلم العلماء في هذه الآية: أولاً: قالوا {الكتاب} [النمل: 40] يُراد به اللوح المحفوظ، يُعلم الله تعالى بعض خَلْقه أسراراً من اللوح المحفوظ، أما الذي عنده علم من الكتاب فقالوا: هو آصف بن برخيا، وكان رجلاً صالحاً أطلعه الله على أسرار الكون.
وقال آخرون: بل هو سليمان عليه السلام، لما قال له العفريت {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ} [النمل: 39] قال هو: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] لأنه لو كان شخصاً آخر لكان له تفوُّق على سليمان في معرفة الكتاب.
لكن رَدُّوا عليهم بأن من عظمة سليمان أنْ يعلمَ أحد رعيته هذا العلم، فمَنْ عنده علم من الكتاب بحيث يأتي بالعرش قبل طَرْفة عين هو خادم في مملكة سليمان ومُسخر له، كما أن المزايا لا تقتضي الأفضلية، وليس شَرْطاً في المِلك أنْ يعرف كل شيء، وإلا لَقُلْنا للمِلك: تَعَال أصلح لنا دورة المياه.
أما نحن فنميل إلى أنه سليمان عليه السلام.
وفَرْق كبير في القدرات بين مَنْ يأتي بالعرش قبل أن يقوم الملك من مجلسه، وبين مَنْ يأتي به في طَرْفة عين، ونَقْل العرش من مملكة بلقيس إلى مملكة سليمان يحتاج إلى وقت وإلى قوة.
والزمن يتناسب مع القوة تناسباً عكسياً: فكلما زادت القوة قَلَّ الزمن، فمثلاً حين تُكلِّف الطفل الصغير بنقل شيء من مكانه إلى مكان ما، فإنه يذهب إليه ببُطْء ويحمله ببُطء حتى يضعه في مكانه، أما الرجل فبيده وفي سرعة ينقله، وهذه المسألة نلاحظها في وسائل المواصلات، ففرْق بين السفر بالسيارة، والسفر بالطائرة، والسفر بالصاروخ مثلاً.
وهذه تكلّمنا عنها في قصة (الإسراء والمعراج) فقد أُسْرِي برسول الله صلى الله عليه وسلم بهذه السرعة؛ لأن الله تعالى أَسْرى به، ونقله من مكان إلى مكان؛ لذلك جاءت الرحلة في سرعة فوق تصوُّر البشر.
وما دام الزمن يتناسب مع القوة، فلا تنسب الحدث إلى رسول الله، إنما إلى الله، إلى قوة القوى التي لا تحتاج إلى زمن أصلاً، فإنْ قلتَ: فلماذا استغرقتْ الرحلة ليلةَ وأخذت وقتاً؟ نقول: لأنه صلى الله عليه وسلم مرَّ بأشياء، ورأى أشياء، وقال، وسأل، وسمع، فهو الذي شغل هذا الوقت، أمّا الإسراء نفسه فلا زمنَ له.
لذلك قبل أن يخبرنا الحق تبارك وتعالى بهذه الحادثة العجيبة قال: {سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ} [الإسراء: 1] أي: نزِّهه عن مشابهة غيره، كذلك مسألة نَقْل العرش في طرْفة عين لابد أن مَنْ فعلها فعلها بعون من الله وبعلم أطلعه الله عليه، فنقله بكُنْ التي لا تحتاج وقتاً ولا قوة، وما دام الأمر بإرادة الله وقوته وإلهامه فلا نقول إلا: آمين.
وفي قوله للجن: {أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل: 40] تحدٍّ لعفريت الجن، حتى لا يظن أنه أقوى من الإنسان، فإنْ أراد الله منحني من القوة ما أتفوّق عليك به، بل وأُسخِّرك بها لخدمتي.
ومن ذلك قوله سبحانه عن تسخير الجن: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ} [سبأ: 13].
وليعلموا أنهم جهلاء، ظلُّوا يعملون لسليمان وهو ميت ومُتكىء على عصاه أمامهم، وهم مرعوبون خائفون منه.
والتحدي قد يكون بالعُلُوِّ، وقد يكون بالدُّنُو، كالذي قال لصاحبه: أنا دارس باريس دراسة دقيقة، وأستطيع أنْ أركب معك السيارة وأقول لك: أين نحن منها، وأمام أيّ محل، وأنا مُغْمض العينين، فقال الآخر: وأنا أستطيع أن أخبرك بذلك بدون أن أُغمِض عَيْنيّ.
وقوله: {فَلَمَّا رَآهُ} [النمل: 40] أي: العرش {مُسْتَقِرّاً عِندَهُ قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي} [النمل: 40] إما لأنه أقدره على الإتيان به بنفسه، أو سخّر له مَنْ عنده علم من الكتاب، فأتاه به، فهذه أو ذلك فضل من الله.
{ليبلوني} [النمل: 40] يختبرني {أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ} [النمل: 40] يعني: أشكر الله فأُوفَّق في هذا الاختبار؟ أم أكفر بنعمة الله فأخفق فيه؟ لأن الاختبار إنما يكون بنتيجته.
والشكر بأن ينسب النعمة إلى المنعم وألاَّ يلهيه جمال النعمة عن جلال واهبها ومُسْديها، فيقول مثلاً: إنما أوتيته على علم عندي.
وقوله: {وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ} [النمل: 40] أي: أن الله تعالى لا يزيده شُكْرنا شيئاً، فله سبحانه وتعالى صفات الكمال المطلق قبل أنْ يشكره أحد، فمَنْ يشكر فإنما يعود عليه، وهو ثمرة شُكْره.
{وَمَن كَفَرَ} [النمل: 40] يعني: جحد النعمة ولم يشكر المنعم {فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ} [النمل: 40] أي: عن شكره {كَرِيمٌ} [النمل: 40] أي يعطي عبده رغم ما كان منه من جحود وكفر بالنعمة؛ لأن نعمه تعالى كثيرة لا تُعَدُّ، وهذا من حِلمه تعالى ورأفته بخَلْقه.
لذلك لما نتأمل قوله تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34] وقد تكررت هذه العبارة بنصِّها في آيتين من كتاب الله، مما جعل البعض يرى فيها تكراراً لا فائدة منه، لكن لو نظرنا إلى عَجُز كل منهما لوجدناه مختلفاً.
فالأولى تُختتم بقوله تعالى: {إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم: 34] والأخرى: {إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 18].
إذن: فهما متكاملتان، لكلٍّ منهما معناها الخاص، فالأولى تبين ظلم الإنسان حين يكفر بنعمة الله عليه ويجحدها، وتضيف الأخرى أن الله تعالى مع ذلك غفور لعبده رحيم به.
كما نلحظ في الآية: {وَإِن تَعُدُّواْ} [إبراهيم: 34] استخدم(إنْ) الدالة على الشك؛ لأن أحداً لا يجرؤ على عَدِّ نِعَم الله في الكون، فهي فوق الحصر؛ لذلك لم يُقْدِم على هذه المسألة أحد، مع أنهم بوسائلهم الحديثة أحصُوا كل شيء إلا نعم الله لم يتصَدَّ لأحصائها أحد في معهد أو جامعة ممن تخصصت في الإحصاء.
وهذا دليل على أنها مقطوع بالعجز عنها، كما لم نجد مثلاً مَنْ تصدّى لإحصاء عدد الرمل في الصحراء. كما نقف عند قوله سبحانه: {نِعْمَتَ الله} [إبراهيم: 34] ولم يقُلْ: نِعَم الله، فالعجز عن الإحصاء أمام نعمة واحدة؛ لأن تحتها نِعَم كثيرة لو تتبعتها لوجدتها فوق الحصر.
ثم لما جاءته بلقيس أراد أن يُجري لها اختبارَ عقلٍ، واختبارَ إيمان: {قَالَ نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا}


{قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ(41)}
قوله: {نَكِّرُواْ} [النمل: 41] ضده عرِّفوا؛ لأنه جاء بالعرش على هيئته كما كان عندها في سبأ، ولو رأتْه على حالته الأولى لقالتْ هو هو، ولم يظهر له ذكاؤها؛ لذلك قال {نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا} [النمل: 41] يعني: غيّروا بعض معالمه، ومنه شخص متنكر حين يُغيِّر ملامحه وزيّه حتى لا يعرف مَنْ حوله.
{نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ} [النمل: 41] تهتدي إيماناً إلى الإسلام، أو تهتدي عقلياً إلى الجواب في مسألة العرش.


{فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ(42)}
جاء السؤال بهذه الصيغة {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل: 42] ليُعمِّي عليها أمر العرش، وليختبر دقة ملاحظتها، فلو قال لها: أهذا عرشك؟ لكان إيحاءً لها بالجواب إنما {أَهَكَذَا عَرْشُكِ} [النمل: 42] كأنه يقول: ليس هذا عرشك، فلما نظرتْ إليه اجمالاً عرفتْ أنه عرشها، فلما رأتْ ما فيه من تغيير وتنكير ظنتْ أنه غيره؛ لذلك اختارتْ جواباً دبلوماسياً يحتمل هذه وهذه، فقالت {كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل: 42] وعندها فهم سليمان أنها على قَدْر كبير من الذكاء والفِطْنة وحصافة الرأي.
وكذلك كلام السَّاسَة والدبلوماسيين تجده كلاماً يصلح لكل الاحتمالات ولأيِّ واقع بعده، فإذا جاء الأمر على خلاف ما قال لك يسبقك بالقول: ألم أَقُلْ لك كذا وكذا.
ومن ذلك ما قاله معاوية بن أبي سفيان للأحنف بن قيس: يا أحنف لماذا لا تسبّ علياً على المنبر كما يسبّه الناس؟ فقال الأحنف: اعفني يا أمير المؤمنين، فقال معاوية: عزمتُ عليك إلاَّ فعلْتَ، فقال: أما وقد عزمت عليَّ فسأصعد المنبر، ولكني سأقول للناس: إن أمير المؤمنين معاوية أمرني أنْ ألعنَ علياً، فقولوا معي: لعنه الله. عندها قال معاوية: لا يا أحنفُ، لا تقل شيئاً.
لماذا؟ لأن اللعن في هذه الحالة سيعود على مَنْ؟ على معاوية أو عَلَى عَلِيّ؟
وتُحكَي قصة الخيّاط الأعور الذي خاط لأحد الشعراء جُبَّة فجاءت وأَحَد الكُمَّيْن أطول من الآخر، فلم يستطع لبسها، فلما سألوه عن عدم لُبْس الجبة الجديدة أخبرهم بما حدث من الخياط فقالوا: أُهْجه، فقال:
قُلْت شِعْراً لَيْس يُدْرَى *** أَمديحٌ أَمْ هِجَاءُ
خَاطَ لِي عَمْروا قُباء *** لَيْتَ عينيه سَوَاءُ
فالكلام يحتمل المعنيين: الدعاء له، والدعاء عليه. هذا هو الرد الدبلوماسي الذي يهرب به صاحبه من المواجهة.
وكذلك قالتْ بلقيس جواباً دبلوماسياً {كَأَنَّهُ هُوَ} [النمل: 42] أما {وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ} [النمل: 42] فيحتمل أنْ يكون امتداداً لقوْل بلقيس، يعني: أوتينا العلم من قبل هذه الحادثة، وعرفنا أنك نبيّ لما رددتَ إلينا الهدية، وقلت ما قلت، فلم نكُنْ في حاجة إلى مثل هذه الحادثة لنعلم نُبوّتك.
ويُحتمل أنها من كلام سليمان عليه السلام.

10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15 | 16 | 17